في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، ألقى الملك محمد السادس خطابًا مكثفًا في مضمونه، دقيقًا في عباراته.. خطاب يلخص دقة الفترة الحالية وحساسيتها، خصوصا السنة التشريعية المتبقية.
الملك تحدث إلى البرلمان، لكنه في العمق كان يخاطب الدولة كلها: الحكومة، الأحزاب، المنتخبين، وحتى الإعلام والمجتمع المدني.
فالخطاب لم يكتفِ بتوجيه عام، بل أعاد رسم خريطة الأولويات الوطنية على ضوء مفهوم “المغرب الصاعد”، ذاك المشروع الذي بات يشكل الإطار المرجعي لكل ما يُنجز وما يُنتظر إنجازه.
كما أن الخطاب حمل نبرة تقييمية واضحة: تذكير بالمسؤولية، ومطالبة بترجمة النوايا إلى أفعال، حيث دعا الملك النواب إلى تكريس هذه السنة للعمل الجاد، واستكمال المخططات التشريعية والمشاريع الميدانية.
الرسالة الأعمق هنا هي أن الجدية أصبحت مبدأ حاكمًا في العمل العام، معيارًا لقياس الأداء وليس مجرد قيمة أخلاقية. فالبرلمان، كما الحكومة، مطالبان بإثبات أن المؤسسات ليست منصات للجدل، بل أدوات فعل وتنفيذ، وخصوصا تجنب هدر الزمن السياسي.
من خلال هذا الخطاب، بدا واضحًا أن الملك يريد نقل فكرة “المغرب الصاعد” من مرحلة الرؤية إلى مرحلة الإنجاز، فقد شدد على ضرورة تسريع برامج التنمية الترابية وتبني جيل جديد من المشاريع يقوم على العدالة الاجتماعية والمجالية، مؤكدًا أن الفوارق بين الجهات لم تعد مجرد أرقام في التقارير، بل قضية مصيرية تمس تماسك الأمة.
وهنا يظهر التحول الجوهري في فلسفة التنمية المغربية: لم تعد المسألة مجرد ضخ استثمارات، بل بناء ثقافة جديدة تُقاس فيها السياسات بمدى أثرها الواقعي في حياة المواطنين.. إنها لحظة الانتقال من التخطيط إلى المحاسبة، من الوعود إلى النجاعة.
أما الحديث عن التفعيل الأمثل للمخطط الوطني للساحل فلم يكن مجرد تفصيل تقني، بل إشارة استراتيجية إلى أفق اقتصادي جديد.
فالمغرب الذي استثمر في الفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة، يفتح اليوم نافذة واسعة على الاقتصاد البحري باعتباره أحد محركات النمو المقبلة.
وحين يدعو الملك إلى تحقيق توازن بين التنمية الساحلية والحماية البيئية، فإن ذلك يعكس رؤية بيئية واقتصادية مندمجة، تضع “الثروة الزرقاء” في قلب معادلة المستقبل.
من بين أكثر العبارات دلالة في الخطاب الملكي تلك التي تحدثت عن “تغيير ملموس في العقليات وطرق العمل”. إنها رسالة تتجاوز الإدارات إلى النخب والفاعلين المحليين. فالتنمية، في نظر الملك، لا يمكن أن تتحقق ما لم تتغير ذهنية التدبير البيروقراطي نحو ثقافة النتائج والمحاسبة.
إنها دعوة إلى ثورة هادئة داخل الإدارة الترابية، حيث تُقاس المشاريع بجدواها لا بحجمها، وبأثرها لا بشعاراتها.
يمكن القول إن خطاب افتتاح البرلمان هذا العام يمثل مرحلة ما يمكن تسميته بـ "الجدية الثانية" في المشروع التنموي المغربي.
فخطاب "الجدية" الأولى، الذي ألقاه الملك بمناسبة عيد العرش قبل سنتين، كان لحظة وعي بضرورة الإصلاح، أما هذا فهو لحظة التنفيذ والمساءلة.
الملك لم يطرح أسئلة جديدة بقدر ما وضع الجميع أمام الجواب الوحيد الممكن: العمل. فالمغرب الذي يريد أن يكون “صاعدًا” لا يمكنه أن يتساهل مع التردد أو الهدر الزمني.
لقد أعاد الخطاب تحديد البوصلة: التنمية ليست شعارًا حكوميًا، بل امتحان وطني شامل، والنجاح فيه مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، وبين المركز والجهات، وبين القول والفعل.
